«البراءة في مواجهة الموت».. مصورة لبنانية توثّق حكايات الحرب «على لسان الأطفال»
«البراءة في مواجهة الموت».. مصورة لبنانية توثّق حكايات الحرب «على لسان الأطفال»
حينما تخطو "نور برو" داخل استوديو التصوير الخاص بها، تنسى ما يحدث بالخارج. يهدأ عقلها مؤقتا فلا تُفزعها قسوة الحرب الدائرة بلبنان، الاستوديو عالمها الذي يُربّت على كتفها؛ خصصته منذ 10 سنوات لتصوير حديثي الولادة والرُضّع، وحينما اشتد القصف الإسرائيلي على الجنوب، تركت منزلها واحتمت فيه مع أسرتها، غير أنها لم توقف العمل، بل اتخذت التصوير وسيلة توثق بها مشاعرها المتفاوتة بين الغضب والحزن والأمل في أن القادم ربما يكون أفضل.
"ولكن هذا العام يبدو مختلفا.. مع كثافة الحرب والأسى والفوضى المحيطة بنا، نشعر وكأن العالم قد انجرف بعيدا عن السلام الذي نتوق إليه جميعا.. ولكن حتى في هذه الأوقات المظلمة، هناك شرارة أمل، سبب للاحتفال بالأشياء والأشخاص الذين يعنون لنا كل شيء".. مع كل جلسة تصوير تنتهي منها المصورة اللبنانية تتشكل لديها مجموعة من المشاعر تجاه هؤلاء الأطفال الذين ولدوا في الأيام القليلة الماضية، "جاؤوا للدنيا بأجواء حرب صعبة علينا كتير بلبنان.. عشان هيك حبيت أكتب على رسايل وكأنها على لسانهم يشوفوها أما يكبروا أو تشوفها أمهاتهم".. تقول نور لـ"جسور بوست".
استعرت الحرب بلبنان في 23 سبتمبر الماضي، حيث اشتد قصف الجيش الإسرائيلي على المناطق الجنوبية ما أدى لمقتل ما يقرب من 3 آلاف شخص وإصابة 14 ألفا آخرين، طبقاً لوزارة الصحة اللبنانية.
وُلدت "نور" في الضاحية الجنوبية، عاشت حياتها هُناك وقررت هي وزوجها الاستقرار فيها بعد الزواج، لم يفكرا كثيرا في عواقب ذلك، "لأنه هاي منطقتنا وما بنروح عنها ولو شو صار"، غير أنها أخذت الاستوديو الخاص بها في بيروت، أنشأته لتحويل هوايتها القديمة لعمل تحبه، وكان منقذها خلال الأسابيع الماضية، "بعد ما بلشت الحرب نزحت أنا وزوجي وفيرا ابنتي وابني علي والآن إحنا بالاستوديو عايشين في غرفة والغرف الباقية للعمل".
"نور" وأسرتها جزء من نحو 1.2 مليون نازح لبناني -حسب تقدير الحكومة اللبنانية- فيما قال عثمان البلبيسي، المدير الإقليمي بالمنظمة الدولية للهجرة، في تصريحات صحفية، إن هُناك أكثر من 185 ألف شخص يعيشون في مراكز إيواء رسمية منذ بدء الحرب، بينما غادر نحو 400 ألف آخرين البلاد واضطر بعضهم للجوء لسوريا والعراق.
تفرقت عائلة "نور" بسبب الحرب، "أسرتي الأكبر نزحوا في بيت بالجبال وأنا وزوجي ببيروت.. ولكن مصابنا ولا شي بالنسبة لمن فقدوا أحد ذويهم أو منازلهم".. تظل المصورة اللبنانية تُذكر نفسها بذلك حتى في الأوقات الصعبة؛ مثلما حدث حينما دُمر جزء من منزلها.
كان ذلك عقب بداية القصف الإسرائيلي بأيام، علمت نور من خلال رسائل الجيش الإسرائيلي للسكان أن منزل جيرانها سيُقصف، أصابها القلق على القطط التي تربيها في حديقة منزلها، "بمر عليهم عدة مرات أسبوعيا لوضع الطعام والشراب"، ذهبت الأم بمفردها، "ما توقعت إنه يكون البيت مأذي لهاي الدرجة"، احتاجت إلى دقائق قليلة بعد دخولها المنزل لتدرك ما حدث، جلست على أقرب كرسي وبدأت في البكاء، "شعور بشع وأنا عم شوف بيتي ياللي جهزته قطعة قطعة وهو بهيك حالة"، لكن نور ما تعودت إلا على القوة؛ تركت المكان على حاله، عازمة على العودة حين تضع الحرب أوزارها، لكنها اصطحبت صور أسرتها التي علقتها بكل غرفة، "ما بدي ياهم يتأثروا.. هايدي ذكرياتنا وما بيستطيع الاحتلال الإسرائيلي إنه يسلبها منا أبدا".
ما أن انتقلت "نور" وأسرتها الصغيرة للاستوديو حتى رتّبت حياتها بشكل مختلف مؤقتا، "بحاول إنه يكون فيه وقت للعمل ووقت لأولادي ووقت للتطوع بمخيمات النازحين قد ما بقدر"، ما عادت فيرا صاحبة الثماني سنوات تذهب للمدرسة، "بتتعلم أونلاين"، تمر نور بكل ما تمر به أمهات لبنان مع ابنتها، "هي واعية وفاهمة إلا إنه عندها أسئلة أيضا.. ليش يا ماما تركنا البيت؟ إمتى بنرجع؟ ليش إسرائيل بتعمل هيك معانا؟"، تُجيب نور ما استطاعت لتطمئن قلب الصغيرة، غير أن الغصة لا تزال بقلبها، "إنه فيرا واللي متلها بيعيشوا هاي الأجواء اللي بتأثر على صحتهم النفسية وتعليمهم وكل شيء".
"فيرا" طالبة ضمن مليون و200 ألف طالب لبناني تأثروا بسبب الحرب، حسب تصريحات عماد الأشقر، وزير التربية والتعليم، الذي أكد أن 40% من الطلاب هُجروا من منازلهم، ما دعا إلى تأجيل الدراسة من أكتوبر حتى الرابع من نوفمبر الماضي، حيث انطلقت من 330 مدرسة خالية من النازحين فيما تم تسجيل بقية التلاميذ للدراسة عن بُعد.
كان الاستوديو دائما نافذة "نور" على عالم الأمهات اللبنانيات، "جزء من عملي إني أحكي مع الأم وأكسر الجليد بيناتنا"، وهو ما جعلها تسمع حكاياتهم مع القصف المتوالي بلبنان، "بعتبرهم أبطال.. أي أم بتضع مولود أو تُربي أبناءها وترعاهم وتحاول توفير بيئة صالحة لهم هي بطلة"، بعضهن نزحن من بيوتهن مثل نور، وأخريات لم يبرحن أماكنهن، غير أن القاسم المشترك، "إنه كلهم بيعانوا يوميا ليستطيعوا تحييد أطفالهن عن جحيم الحرب والخوف"، لذا كان الاستوديو أيضا ملجأ لبعضهن كما هو الحال مع نور.
"ابنتي/ ابني خلق بهاي الظروف الصعبة.. وهايدي هي الفرصة الوحيدة لي إني أحتفل بمجيئه".. سمعت "نور" تلك الجمُلة مرارًا من الأمهات اللاتي يأتين لتصوير أولادهن، ومن قصصهن وبراءة الأطفال تكتب "نور" خواطرها عن الحرب وتنشرها عبر صفحتها الرسمية بفيس بوك.
فعلت "نور" ذلك أيضا مع بدايات القصف على غزة، فيما ترحب الأمهات دائما بالفكرة حين تستأذن منهن، وبعد النشر تأتي ردود الفعل دافئة ومتفاعلة مع ما كتبت، "كتير منهن قالولي إنتي بتعبري عن اللي بنحسه ومش قادرين نقوله"، حتى إن بعض السيدات اللاتي يأتين الاستوديو لأول مرة يطلبن من نور أن تكتب شيئا وترفقه بصور أولادهن، "أد ما بدهن ينسوا الدمار أد ما بيريدوا يصنعوا الذكريات الجميلة".
الشغف بالتصوير هو ما يدفع "نور" للاستمرار، "وكمان بالتأكيد بهيدي الظروف أي مصاريف بتدخل البيت بتساعدنا"، لكن الحرب تظل قاسية؛ تتذكر نور بغصة عدة أوقات كاد الخوف أن يهزمها، أصعبها كانت لحظات مرت كأنها الدهر في اليوم الرابع من بدء الحرب.
"كنا ببيروت والأولاد كانوا كتير زهقانين من الجلوس بالمنزل".. قررت "نور" أن تأخذ فيرا وعلي إلى المتنزه الذي يبعد خطوات عن مكان إقامتهم، ما إن دخلت معهما الحديقة المتسعة حتى انطلقت أصوات الغارات مرتفعة، هزّت المحيط كله، جلست الأم على الأرض، حمت فيرا وعلي بكلتا يديها، "شي عشر غارات ورا بعضن.. ما كنت بعرف إذا عم بيضربوا نار على حدا ولا هايدا قصف"، فزعت "فيرا" وبكى علي ولم تستطع نور سوى الابتهال أن تمر اللحظات القادمة بسلام، لا سيما أن "هايدي الأحراش مفتوحة تماما على السماء ما فيها إلا شجر".
لا تعرف "نور" هل مرت دقائق أو ساعات ولكن ما إن هدأ القصف حتى ركضت رفقة فيرا وعلي إلى المنزل، "وهونيك عرفت إنه هيدا القصف اللي نتج عنه استشهاد السيد حسن نصر الله"، عانت نور الأمرّين يومها "بين تهدئة روع أولادي وبين فزعي وحزني الداخلي بعدما سمعنا عما حدث.. كتير كنت حاسة بالعجز".
تمر الأيام ثقالاً على "نور" لكنها تجد بعض السلوى داخل الاستوديو، تكتب عن الأمهات وعن نفسها، تشعر بالخوف ولكن ليس التخاذل، تظل تُذكر ابنتها أن "الخير سينتصر في لبنان وغزة في النهاية حتى ولو أخذ الشر مجراه فترة طويلة".